7/15/2025 10:00:02 AM
موقع إخباري مستقل - منوع
رئيس التحرير : ايوب التميمي
الرئيسية
عاجل
متابعات دولية
اقتصاد
سياحة
رياضة
دراسات وأبحاث
حقوق وحريات
مقالات
تكنولوجيا
هشتاج
اجراس يوتيوب
أصيل ناجي
كُلّ ما كان لي... تسرّب من بين أصابعي بقلم: أصيل ناجي
7/12/2025
12/ 7 / 2025 م في اليمن، لا يحدث أن تفقد كل شيء دفعةً واحدة. الخسارة هنا لا تأتي كصفعة، بل كتنقيطٍ بطيءٍ للماء على صخرة صدرك. لا تتذكر متى بدأت بالضبط. الأمر لا يحدث فجأة، بل هو تآكلٌ صامت، يشبه الصدأ في قلب معدنٍ نقي. لم تكن ضربةً واحدة، بل آلاف الطعنات الصغيرة. تأتيك من كل شيء، ومن لا شيء. في اليمن، نحن لا نعيش... نحن نؤجّل انهيارنا الكامل كل يوم. نُقنع أنفسنا أن البقاء، رغم القهر، فضيلة. وأن الصبر، وإن التهمنا حيًّا، نوعٌ من البطولة. أما أنا، فأقف اليوم في منتصف الحكاية؛ لا منتصر، ولا مهزوم تمامًا. فقط ناجٍ يتساءل: ماذا يتبقى من الإنسان حين يخسر كلّ ما كان يملكه، دون أن يدرك حتى متى بدأت الخسارة؟ هل يبقى إنسانًا؟ أم شبحًا يتجوّل في جسدٍ لم يعُد يشبهه؟ تلتفت حينها، فتكتشف أن كلّ ما كان لك... قد تسرّب من بين أصابعك، كأنك كنت تمسك حفنة رمل، ظننتها ثابتة، لكنها ذهبت في صمت، حبةً تلو الأخرى. كنت تؤمن أن لك مكانًا في هذا العالم، أن لك نصيبًا من الحياة، وأن هذه الأرض، رغم شقائها، ستمنحك فرصة. كنت تحلم. نعم... كنت من أولئك المجانين الذين يُصدّقون أن بإمكان الحلم أن يصمد في وطنٍ يُربّي أبناءه على الصمت، والخوف، والانكسار. درست، اجتهدت، صبرت، خضت معارك ضد الفقر، وضد الحرب، وضد الغربة... حتى وأنا في وطني. وكنت أُمنّي النفس بأفقٍ ما، بنقطة ضوءٍ تلوح في آخر هذا النفق. لكن، شيئًا فشيئًا، بدأت أفقد كل شيء. الأصدقاء كانوا كثيرين، ثم أصبحوا غرباء، ثم أسماءً منسية في قائمة مهجورة على الهاتف. العائلة تحوّلت إلى وجوهٍ غارقة في الهمّ. الوظيفة صارت وهمًا. والكرامة تُداس كل صباح باسم "الظروف". حتى أحلامي... تلك التي كنت أرويها لنفسي قبل النوم، جفّت وماتت عطشًا. أنا اليوم شخصٌ لا يشبه صورته القديمة، لا في عينيّ نور، ولا في صوتي رجاء. أمشي كمن أضاع الاتجاه، أكلم نفسي كثيرًا، وأتجنب الحديث عن الغد، لأنه لم يعُد يحمل لي شيئًا سوى المزيد من الفقد. ولا أملك سوى هذه الجملة: "كُلّ ما كان لي... تسرّب من بين أصابعِي." كما يتسرّب الرمل من يدٍ مثقوبة، أو كما ينكسر الزجاج في صمت. لم أعد أستطيع القبض على شيء: لا أمان، لا استقرار، لا حتى لحظة دفء تشبه الحياة التي حلمت بها. نُقنع أنفسنا أن البقاء، رغم القهر، فضيلة. وأن الصبر، وإن أكلنا حيًّا، بطولة لا بدّ منها. نعيش في المنتصف؛ نتنفس ونقاوم، لكن لا ندري لماذا، ولا كيف. فالخسارة في اليمن لا تُعلن عن نفسها، بل تمشي على أطراف الأصابع. وتبدأ من الداخل: من فقدان الإحساس بالأمان، من تحوّل الحلم إلى كابوس، من فقدان الكلمات للمعنى... حينها تدرك أنك لم تعد قادرًا على إيقاف الانهيار، لأنك لا تعرف أنه قد بدأ. تسأل نفسك: الوطن؟! كان لي... أو هكذا خُيّل إلي. كيف تحوّل من دفء إلى برد؟ من حضنٍ إلى جدار؟ من أمٍّ إلى لاجئة؟ ومن وطن... إلى خريطة لا تعترف بي؟ أنا هنا لا أسأل، ولا أبكي، ولا ألوم. أنا فقط أحاول أن أفهم. لكن، رغم كل ما تسرب، رغم الخسارات الصغيرة التي راكمت هذا الفراغ الكبير... بقي شيء عالق. شيء لا تستطيع الحرب سرقته: ذاكرتي. ذاكرتي تهمس لي: إنني كنت إنسانًا، قبل أن تُسلَب مني كل الأشياء. وهذا وحده كافٍ لأن أبقى واقفًا. صحيح أن كُلّ ما كان لي... تسرّب من بين أصابعي، لكن ما بقي في صدري لا يُرى، ولا يُمسك، وهو الشيء الوحيد... الذي لم أفرّط فيه بعد. ورغم كل ما تسرب، ورغم كل ما فُقد، ما زالت هناك بذرة تنمو في صمت قلبي، بذرةٌ صغيرة من الإصرار، من الرغبة في أن أظل إنسانًا، حتى لو حاول العالم أن ينزع مني ذلك. ربما لم أعد أملك ما كنت أملكه يومًا، لكنّني لا أزال أملك الأمل، ذلك الشعور الذي لا تملكه إلا القلوب التي تعشق الحياة رغم الألم. وأصابعُ قلبي ما زالت تمسكه، حتى وإن تسرّب من بين أصابعي كل شيء آخر. لأجل هذا الأمل، سأمضي. سأقاوم. وسأحاول أن أزرع من بين الأنقاض شيئًا جديدًا، شيئًا لا يستطيع الزمان، ولا الظروف، أن يسرقه. فالحياة، رغم قسوتها، لا تزال تستحق أن نحلم بها، حتى لو كان الحلم صغيرًا، حتى لو كان مجرد ضوء بعيد... يبقى كافيًا لأن نستمر.